الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار **
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار تأليف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي 1307 – 1376 هـ بسم الله الرحمن الرحيم من تأمل هذا الكتاب على اختصاره ووضوحه رآه مشتملاً من جميع العلوم النافعة على: علم التوحيد، والأصول، والعقائد، وعلم السير والسلوك إلى الله، وعلم الأخلاق، والآداب الدينية، والدنيوية، والطبية، وعلم الفقه والأحكام في كل أبواب الفقه: من عبادات، ومعاملات، وأنكحة، وغيرها، وبيان حكمها، ومأخذها وأصولها وقواعدها، وعلوم الإصلاحات المتنوعة، والمواضيع النافعة، والتوجيهات إلى جلب المنافع الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية، ودفع المضار. وهي كلها مأخوذة ومستفادة من كلماته صلوات الله وسلامه عليه، حيث اختير فيه شرح أجمع الأحاديث وأنفعها، كما ستراه. وذلك كله من فضل الله ورحمته . والله هو المحمود وحده.
الحمد لله المحمود على ما له من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العظيمة العليا، وعلى آثارها الشاملة للأولى والأخرى. وأصلي وأسلم على محمد أجمع الخلق لكل وصف حميد، وخلق رشيد، وقول سديد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه من جميع العبيد. أما بعد: فليس بعد كلام الله أصدق ولا أنفع ولا أجمع لخير الدنيا والآخرة من كلام رسول وخليله محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو أعلم الخلق، وأعظمهم نصحاً وإرشاداً وهداية، وأبلغهم بياناً وتأصيلاً وتفصيلاً، وأحسنهم تعليماً. وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، بحيث كان يتكلم بالكلام القليل لفظه، الكثيرة معانيه، ومع كمال الوضوح والبيان الذي هو أعلى رتب البيان. وقد بدا لي أن أذكر جملة صالحة من أحاديثه الجوامع في المواضيع الكلية، والجوامع في جنس، أو نوع، أو باب من أبواب العلم، مع التكلم على مقاصدها وما تدل عليه، على وجه يحصل به الإيضاح والبيان مع الاختصار، إذ المقام لا يقتضي البسط. فأقول مستعيناً بالله، سائلاً منه التيسير والتسهيل:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات. وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها. فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق عليه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه – وفي رواية: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا – فهو رد) متفق عليه. هذان الحديثان العظيمان يدخل فيهما الدين كله، أصوله وفروعه، ظاهره وباطنه. فحديث عمر ميزان للأعمال الباطنة، وحديث عائشة ميزان الأعمال الظاهرة. ففيهما الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول اللذان هما شرط لكل قول وعمل، ظاهر وباطن. فمن أخلص أعماله لله متبعاً في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا الذي عمله مقبول. ومن فقد الأمرين أو أحدهما فعمله مردود، داخل في قول الله تعالى: أما النية: فهي القصد للعمل تقرباً إلى الله، وطلباً لمرضاته وثوابه. فيدخل في هذا: نية العمل، ونية المعمول له. أما نية العمل: فلا تصح الطهارة بأنواعها، ولا الصلاة والزكاة والصوم والحج وجميع العبادات إلا بقصدها ونيتها، فينوي تلك العبادة المعينة. وإذا كانت العبادة تحتوي على أجناس وأنواع، كالصلاة، منها الفرض، والنفل المعين، والنفل المطلق. فالمطلق منه يكفي فيه أن ينوي الصلاة. وأما المعين من فرض أو نفل معين – كوتر أو راتبة – فلا بد مع نية الصلاة أن ينوي ذلك المعين. وهكذا بقية العبادات. ولا بد أيضاً أن يميز العادة عن العبادة. فمثلاً الاغتسال يقع نظافة أو تبرداً، ويقع عن الحدث الأكبر، وعن غسل الميت، وللجمعة ونحوها، فلا بد أن ينوي فيه رفع الحدث أو ذلك الغسل المستحب. وكذلك يخرج الإنسان الدراهم مثلاً للزكاة، أو للكفارة، أو للنذر، أو للصدقة المستحبة، أو هدية. فالعبرة في ذلك كله على النية. ومن هذا: حيل المعاملات إذا عامل معاملة ظاهرها وصورتها الصحة، ولكنه يقصد بها التوسل إلى معاملة ربوية، أو يقصد بها إسقاط واجب، أو توسلاً إلى محرم. فإن العبرة بنيته وقصدهن لا بظاهر لفظه؛ فإنما الأعمال بالنيات. وذلك بأن يضم إلى أحد المعوضين ما ليس بمقصود، أو يضم إلى العقد عقداً غير مقصود. قاله شيخ الإسلام. وكذلك شرط الله في الرجعة وفي الوصية: أن لا يقصد العبد فيهما المضارة. ويدخل في ذلك جميع الوسائل التي يتوسل بها إلى مقاصدها؛ فإن الوسائل لها أحكام المقاصد، صالحة أو فاسدة. والله يعلم المصلح من المفسد. وأما نية المعمول له: فهو الإخلاص لله في كل ما يأتي العبد وما يذر، وفي كل ما يقول ويفعل. قال تعالى: وذلك أن على العبد أن ينوي نية كلية شاملة لأموره كلها، مقصوداً بها وجه الله، والتقرب إليه، وطلب ثوابه، واحتساب أجره، والخوف من عقابه. ثم يستصحب هذه النية في كل فرد من أفراد أعماله وأقواله، وجميع أحواله، حريصاً فيه على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده: من الرياء والسمعة، وقصد المحمدة عند الخلق، ورجاء تعظيمهم، بل إن حصل شيء من ذلك فلا يجعله العبد قصده، وغاية مراده، بل يكون القصد الأصيل منه: وجه الله، وطلب ثوابه من غير التفات للخلق، ولا رجاء لنفعهم أو مدحهم. فإن حصل شيء نم ذلك من دون قصد من العبد لم يضره شيئاً، بل قد يكون من عاجل بشرى المؤمن. فقوله صلى الله عليه وسلم : (إنما الأعمال بالنيات) أي: إنها لا تحصل ولا تكون إلا بالنية، وأن مدارها على النية. ثم قال: (وإنما لكل امرئ ما نوى) أي: إنها تكون بحسب نية العبد صحتها أو فسادها، كمالها أو نقصانها، فمن نوى فعل الخير وقصد به المقاصد العليا – وهي ما يقرب إلى الله – فله من الثواب والجزاء الجزاء الكامل الأوفى. ومن نقصت نيته وقصده نقص ثوابه. ومن توجهت نيته إلى غير هذا المقصد الجليل فاته الخير، وحصل على ما نوى من المقاصد الدنيئة الناقصة. ولهذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً ليقاس عليه جميع الأمور، فقال: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) أي: حصل له ما نوى، ووقع أجره على الله (ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) خص فيه المرأة التي يتزوجها بعد ما عم جميع الأمور الدنيوية لبيان أن جميع ذلك غايات دنيئة، ومقاصد غير نافعة، وكذلك حين سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، أو حمية، أو ليُرَى مقامه في صف القتال (أيُّ ذلك في سبيل الله؟) فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) وقال تعالى في اختلاف النفقة بحسب النيات والأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العامل من الإيمان والإخلاص، حتى إن صاحب النية الصادقة – وخصوصاً إذا اقترن بها ما يقدر عليه من العمل – يلتحق صاحبها بالعامل. قال تعالى: وفي الصحيح مرفوعاً (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً) ، (إن بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلى كانوا معكم – أي: في نياتهم وقلوبهم وثوابهم – حبسهم العذر) وإذا هم العبد بالخير ثم لم يقدر له العمل كتبت هِمَّته ونيته له حسنة كاملة. والإحسان إلى الخلق بالمال والقول والفعل خير وأجر وثواب عند الله. ولكنه يعظم ثوابه بالنية. قال تعالى: وكذلك تجري النية في المباحات والأمور الدنيوية. فإن من قصد بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية الاستعانة بذلك على القيام بحق الله وقيامه بالواجبات والمستحبات، واستصحب هذه النية الصالحة في أكله وشربه ونومه وراحاته ومكاسبه: انقلبت عاداته عبادات، وبارك الله للعبد في أعماله، وفتح له من أبواب الخير والرزق أموراً لا يحتسبها ولا تخطر له على بال. ومن فاتته هذه النية الصالحة لجهله أو تهاونه فلا يلومن إلا نفسه. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (إنك لن تعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا أجرت عليه، حتى ما تجعله في فيّ امرأتِك). فعلم بهذا: أن هذا الحديث جامع لأمور الخير كلها. فحقيق بالمؤمن الذي يريد نجاة نفسه ونفعها أن يفهم معنى هذا الحديث، وأن يكون العمل به نصيب عينيه في جميع أحواله وأوقاته. وأما حديث عائشة: فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد – أو من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فيدل بالمنطوق وبالمفهوم. أما منطوقه: فإنه يدل على أن كل بدعة أحدثت في الدين ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، سواء كانت من البدع القولية الكلامية، كالتجهم والرفض والاعتزال وغيرها، أو نم البدع العملية كالتعبد لله بعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله. فإن ذلك كله مردود على أصحابه. وأهله مذمومون بحسب بدعهم وبُعدها عن الدين. فمن أخبر بغير ما أخبر الله به ورسوله، أو تعبد بشيء لم يأذن لم يأذن الله به ورسوله ولم يشرعه: فهو مبتدع. ومن حرَّم المباحات، أو تعبد بغير الشرعيات: فهو مبتدع. وأما مفهوم هذا الحديث: فإن من عمل عملاً، عليه أمر الله ورسوله – وهو التعبد لله بالعقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة: من واجب ومستحب: فعمله مقبول، وسعيه مشكور. ويستدل بهذا الحديث على أن كل عبادة فعلت على وجه منهي عنه فإنها فاسدة؛ لأنه ليس عليها أمر الشارع، وأن النهي يقتضي الفساد. وكل معاملة نهى الشارع عنها فإنها لاغية لا يعتد بها. عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم. كرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة اهتماماً للمقام، وإرشاداً للأمة أن يعلموا حق العلم أن الدين كله – ظاهره وباطنه – منحصر في النصيحة. وهي القيام التام بهذه الحقوق الخمسة. فالنصيحة لله: الاعتراف بوحدانية الله. وتفرده بصفات الكمال على وجه لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه، والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً، والإنابة إليه كل وقت بالعبودية، والطلب رغبة ورهبة مع التوبة والاستغفار الدائم؛ لأن العبد لا بد له من التقصير من شيء نم واجبات الله، أو التجرؤ على بعض المحرمات. وبالتوبة الملازمة والاستغفار الدائم ينجبر نقصه، ويتم عمله وقوله. وأما النصيحة لكتاب الله: فبحفظه وتدبره، وتعلم ألفاظه ومعانيه والاجتهاد في العمل به في نفسه وفي غيره. وأما النصيحة للرسول: فهي الإيمان به ومحبته، وتقديمه فيها على النفس والمال والولد، واتباعه في أصول الدين وفروعه، وتقديم قوله على قول كل أحد، والاجتهاد في الاهتداء بهديه، والنصر لدينه. وأما النصيحة لأئمة المسلمين – وهم ولاتها، من الإمام الأعظم إلى الأمراء والقضاة إلى جميع من لهم ولاية عامة أو خاصة -: فباعتقاد ولايتهم، والسمع والطاعة لهم، وحث الناس على ذلك، وبذل ما يستطيعه من إرشادهم، وتنبيههم إلى كل ما ينفعهم وينفع الناس، وإلى القيام بواجبهم. وأما النصيحة لعامة المسلمين: فبأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك بحسب الإمكان، فإن من أحب شيئاً سعى له، واجتهد في تحقيقه وتكميله. فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر النصيحة بهذه الأمور الخمسة التي تشمل القيام بحقوق الله، وحقوق كتابه، وحقوق رسوله، وحقوق جميع المسلمين على اختلاف أحوالهم وطبقاتهم. فشمل ذلك الدين كله، ولم يبق منه شيء إلا دخل في هذا الكلام الجامع المحيط. والله أعلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: دُلَّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتُؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنْقُصُ منه. فلما وَلَّى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) متفق عليه. قد وردت أحاديث كثيرة في هذا الأصل الكبير الذي دلّ عليه الحديث. ومدلولها كلها متفق أو متقارب على أن من أدى ما فرض الله عليه بحسب الفروض المشتركة والفروض المختصة بالأسباب التي من وجدت فيه وجبت عليه. فمن أدى الفرائض واجتنب المحرمات استحق دخول الجنة، والنجاة من النار. ومن اتصف بهذا الوصف فقد استحق اسم الإسلام والإيمان، وصار من المتقين المفلحين، وممن سلك الصراط المستقيم. يشبه هذا ويقاربه: عن سفيان بن عبد الله الثَّقفي قال: قلت (يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم. فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً جاعاً للخير نافعاً، موصلاً صاحبه إلى الفلاح. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله الذي يشمل ما يجب اعتقادُه: من عقائد الإيمان، وأصوله، وما يتبع ذلك: من أعمال القلوب، والانقياد والاستسلام لله،باطناً وظاهراً، ثم الدوام على ذلك، والاستقامة عليه إلى الممات. وهو نظير قوله تعالى: وقد دلت نصوص الكتاب والسنة الكثيرة على أن الإيمان يشمل ما في القلوب من العقائد الصحيحة، وأعمال القلوب: من الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، وإرادة الخير، وكراهة الشر. ومن أعمال الجوارح. ولا يتم ذلك إلا بالثبات عليه. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) متفق عليه. وزاد الترمذي والنسائي: (والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم) وزاد البيهقي: (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله). ذكر في هذا الحديث كمال هذه الأسماء الجليلة، التي رتب الله ورسوله عليها سعادة الدنيا والآخرة. وهي الإسلام والإيمان، والهجرة والجهاد. وذكر حدودها بكلام جامع شامل، وأن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. وذلك أن الإسلام الحقيقي: هو الاستلام لله، وتكميل عبوديته والقيام بحقوقه، وحقوق المسلمين. ولا يتم الإسلام حتى يحب للمسلمين ما يحب لنفسه. ولا يتحقق ذلك إلا بسلامتهم من شر لسانه وشر يده. فإن هذا أصل هذا الفرض الذي عليه للمسلمين. فمن لم يسلم المسلمون من لسانه أو يده كيف يكون قائماً بالفرض الذي عليه لإخوانه المسلمين؟ فسلامتهم من شره القولي والفعلي عنوان على كمال إسلامه. وفسر المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم؛ فإن الإيمان إذا دار في القلب وامتلأ به، أوجب لصاحبه القيام بحقوق الإيمان التي من أهمها: رعاية الأمانات، والصدق في المعاملات، والورع عن ظلم الناس في دمائهم وأموالهم. ومن كان كذلك عرف الناس هذا منه، وأمنوه على دمائهم وأموالهم. ووثقوا به، لما يعلمون منه من مراعاة الأمانات، فإن رعاية الأمانة من أخص واجبات الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له). وفسر صلى الله عليه وسلم الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجرة الذنوب والمعاصي. وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله؛ فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات، والإقدام على المعاصي. والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام، والسنة جزء من هذه الهجرة، وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة. وفسر المجاهد بأنه الذي جاهد نفسه على طاعة الله؛ فإن النفس مَيَّالة إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء، سريعة التأثر عند المصائب، وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله، وثباتها عليها، ومجاهدتها عن معاصي الله، وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب. وهذه هي الطاعات: امتثال المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور. فالمجاهد حقيقة: من جاهدها على هذه الأمور؛ لتقوم بواجبها ووظيفتها. ومن أشرف هذا النوع وأجلِّه: مجاهدتُها على قتلا الأعداء، ومجاهدتهم بالقول والفعل؛ فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين. فهذا الحديث من قام بما دلّ عليه فقد قام بالدين كله: (من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، وهجر ما نهى الله عنه، وجاهد نفسه على طاعة الله"، فإنه لم يبق من الخير الديني والدنيوي الظاهري والباطني شيئاً إلا فعله، ولا من الشر شيئاً إلا فعله، ولا من الشر شيئاً إلا تركه. والله الموفق وحده. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً. ومن كانت فيه خَصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدَر، وإذا خاصم فجر) متفق عليه. النفاق أساس الشر. وهو أن يظهر الخير، ويبطن الشر. هذا الحدُّ يدخل فيه النفاق الأكبر الاعتقادي، الذي يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر. وهذا النوع مُخرج من الدين بالكلية، وصاحبه في الدَّرْك الأسفل من النار. وقد وصف الله هؤلاء المنافقين بصفات الشر كلها: من الكفر، وعدم الإيمان، والاستهزاء بالدين وأهله، والسخرية منهم، والميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عداوة دين الإسلام. وهم موجودون في كل زمان، ولا سيما في هذا الزمان الذي طغت فيه المادية والإلحاد والإباحية. والمقصود هنا: القسم الثاني من النفاق الذي ذكر في هذا الحديث فهذا النفاق العملي – وإن كان لا يخرج من الدين بالكلية – فإن دهليز الكفر، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع فقد اجتمع فيه الشر، وخلصت فيه نعوت المنافقين، فإن الصدق، والقيام بالأمانات، والوفاء بالعهود، والورع عن حقوق الخلق هي جماع الخير، ومن أخص أوصاف المؤمنين. فمن فقد واحدة منها فقد هدم فرضاً من فروض الإسلام والإيمان، فكيف بجميعها؟. فالكذب في الحديث يشمل الحديث عن الله والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من كذب عليه معتمداً فليتبوأ مقعده من النار واعلم أن من أصول أهل السنة والجماعة: أنه قد يجتمع في العبد خصال خير وخصال شر، وخصال إيمان وخصال كفر أو نفاق. ويستحق من الثواب والعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك وقد دلّ على هذا الأصل نصوص كثيرة من الكتاب والسنة. فيجب العمل بكل النصوص، وتصديقها كلها. وعلينا أن نتبرأ من مذهب الخوارج الذين يدفعون ما جاءت به النصوص: من بقاء الإيمان وبقاء الدين، ولو فعل الإنسان من المعاصي ما فعل، إذا لم يفعل شيئاً من المنكرات التي تخرج صاحبها من الإيمان. فالخوارج يدفعون ذلك كله، ويرون من فعل شيئاً من الكبائر ومن خصال الكفر أو خصال النفاق خارجاً من الدين، مخلداً في النار. وهذا مذهب باطل بالكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله، وَلْيَنْتَهِ). وفي لفظ (فليقل: آمنت بالله ورسله) متفق عليه. وفي لفظ (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولون: من خلق الله؟). احتوى هذا الحديث على أنه لا بد أن يلقي الشيطان هذا الإيراد الباطل: إما وسوسة محضة، أو على لسان شياطين الإنس وملاحدتهم. وقد وقع كما أخبر، فإن الأمرين وقعا، لا يزال الشيطان يدفع إلى قلوب من ليست لهم بصيرة هذا السؤال الباطل، ولا يزال أهل الإلحاد يلقون هذه الشبهة التي هي أبطل الشبه، ويتكلمون عن العلل وعن مواد العلم بكلام سخيف معروف. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم إلى دفع هذا السؤال بأمور ثلاثة: بالانتهاء، والتعوذ من الشيطان، وبالإيمان. أما الانتهاء – وهو الأمر الأول -: فإن الله تعالى جعل للأفكار والعقول حداً تنتهي إليه، ولا تتجاوزه. ويستحيل لو حاولت مجاوزته أن تستطيع، لأنه محال، ومحاولة المحال من الباطل والسفه، ومن أمحل المحال التسلسل في المؤثرين والفاعلين. فإن المخلوقات لها ابتداء، ولها انتهاء. وقد تتسلسل في كثير من أمورها حتى تنتهي إلى الله الذي أوجدها وأوجد ما فيها من الصفات والمواد والعناصر الأمر الثاني: التعوذ بالله من الشيطان. فإن هذا من وساوسه وإلقائه في القلوب؛ ليشكك الناس في الإيمان بربهم. فعلى العبد إذا وجد ذلك: أن يستعيذ بالله منه، فمن تعوذ بالله بصدق وقوة أعاذه الله وطرد عنه الشيطان، واضمحلت وساوسه الباطلة. الأمر الثالث: أن يدفعه بما يضاده من الإيمان بالله ورسله، فإن الله ورسله أخبروا بأنه تعالى الأول الذي ليس قبله شيء، وأنه تعالى المتفرد بالوحدانية، وبالخلق والإيجاد للموجودات السابقة واللاحقة. فهذا الإيمان الصحيح الصادق اليقيني يدفع جميع ما يضاده من الشبه المنافية له، فإن الحق يدفع الباطل. والشكوك لا تعارض اليقين. فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم تبطل هذه الشبه التي لا تزال على ألسنة الملاحدة، يلقونها بعبارات متنوعة. فأمر بالانتهاء الذي يبطل التسلسل الباطل، وبالتعوذ من الشيطان الذي هو الملقي لهذه الشبهة، وبالإيمان الصحيح الذي يدفع كل ما يضاده من الباطل. والحمد لله فبالانتهاء: قطع الشر مباشرة. وبالاستعاذة: قطع السبب الداعي إلى الشر. وبالإيمان اللجأ والاعتصام بالاعتقاد الصحيح اليقيني الذي يدفع كل معارض. وهذه الأمور الثلاثة هي جماع الأسباب الدافعة لكل شبهة تعارض الإيمان. فينبغي العناية بها في كل ما عرض للإيمان من شبهة واشتباه يدفعه العبد مباشرة بالبراهين الدالة على إبطاله، وبإثبات ضده وهو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، وبالتعوذ بالله من الشيطان الذي يدفع إلى القلوب فتن الشبهات، وفتن الشهوات، ليزلزل إيمانهم، ويوقعهم بأنواع المعاصي. فبالصبر واليقين: ينال العبد السلامة من فتن الشهوات، ومن فتن الشبهات. والله هو الموفق الحافظ. عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل شيء بقدّر حتى العَجْز والكَيْس) رواه مسلم. هذا الحديث متضمن لأصل عظيم من أصول الإيمان الستة. وهو الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، عامه وخاصه، سابقه ولاحقه، بأن يعترف العبد أن علم الله محيط بكل شيء، وأنه علم أعمال العباد خيرها وشرها، وعلم جميع أمورهم وأحوالهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ. كما قال تعالى فمن وَجَّه وجهه وقصده لربه: حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين، فتمت عليه نعم الله من كل وجه. ومن وجّه وجهه لغير الله، بل تولى عدوه الشيطان: لم ييسره لهذه الأمور، بل وَلاَّه الله ما تولى، وخذله، ووكله إلى نفسه، فضَلَّ وغوى وليس له على ربه حجة، فإن الله أعطاه جميع الأسباب التي يقدر بها على الهداية، ولكنه اختار الضلالة على الهدى، فلا يلومن إلا نفسه. قال تعالى: أما أهل السعادة: فييسرون لعلم السعادة، وذلك بكيسهم وتوفيقهم ولطف الله بهم. والكيس والعاجز هما المذكوران في قوله صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعاء إلى هُدَى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) رواه مسلم. هذا الحديث – وما أشبهه من الأحاديث – فيه: الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والتحذير من الدعاء إلى الضلالة والغيّ، وعظم جرم الداعي وعقوبته. والهدى: هو العلم النافع، والعمل الصالح. فكل من علم علماً لو وَجَّه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم: فهو داع إلى الهدى. وكل من دعاء إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة: فهو داع إلى الهدى. وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين: فهو داع إلى الهدى. وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره: فهو داع إلى الهدى. وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع: فهو داخل في هذا النص. وعكس ذلك كله: الداعي إلى الضلالة. فالداعون إلى الهدى: هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين. والداعون إلى الضلالة: هم الأئمة الذين يدعون إلى النار. وكل من عاون غيره على البر والتقوى: فهو من الداعين إلى الهدى. وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان: فهو من الداعين إلى الضلالة. عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) متفق عليه. هذا الحديث من أعظم فضائل العلم، وفيه: أن العلم النافع علامة على سعادة العبد، وأن الله أراد به خيراً. والفقه في الدين يشمل الفقه في أصول الإيمان، وشرائع الإسلام والأحكام، وحقائق الإحسان. فإن الدين يشمل الثلاثة كلها، كما في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، وأجابه صلى الله عليه وسلم بحدودها. ففسر الإيمان بأصوله الستة. وفسر الإسلام بقواعده الخمس. وفسر الإحسان بـ (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فيدخل في ذلك التفقه في العقائد، ومعرفة مذهب السلف فيها، والتحقق به ظاهراً وباطناً، ومعرفة مذاهب المخالفين، وبيان مخالفتها للكتاب والسنة. ودخل في ذلك: علم الفقه، أصوله وفروعه، أحكام العبادات والمعاملات، والجنايات وغيرها. ودخل في ذلك: التفقه بحقائق الإيمان، ومعرفة السير والسلوك إلى الله، الموافقة لما دل عليه الكتاب والسنة. وكذلك يدخل في هذا: تعلُّم جميع الوسائل المعينة على الفقه في الدين كعلوم العربية بأنواعها. فمن أراد الله به خيراً فقهه في هذه الأمور، ووفقه لها. ودلّ مفهوم الحديث على أن من أعرض عن هذه العلوم بالكلية فإن الله لم يرد به خيراً، لحرمانه الأسباب التي تنال بها الخيرات، وتكتسب بها السعادة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعْجَز . وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله، وما شاء فعل، فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان) رواه مسلم. هذا الحديث اشتمل على أصول عظيمة كلمات جامعة. فمنها: إثبات المحبة صفة لله، وأنها متعلقة بمحبوباته وبمن قام بها ودلّ على أنها تتعلق بإرادته ومشيئته، وأيضاً تتفاضل. فمحبته للمؤمن القوي أعظم من محبته للمؤمن الضعيف. ودلّ الحديث على أن الإيمان يشمل العقائد القلبية والأقوال والأفعال، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة فإن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول: (لا إله إلا الله) وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة منه. وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان. فمن قام بها حق القيام، وكَمَّل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمَّل غيره بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر: فهو المؤمن القوي الذي حاز أعلى مراتب الإيمان. ومن لم يصل إلى هذه المرتبة: فهو المؤمن الضعيف. وهذا من أدلة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص. وذلك بحسب علوم الإيمان ومعارفه، وبحسب أعماله. وهذا الأصل قد دلّ عليه الكتاب والسنة في مواضع كثيرة: ولما فاضل النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين قويهم وضعيفهم خشي من توهم القدح في المفضول، فقال: (وفي كل خير) وفي هذا الاحتراز فائدة نفيسة، وهي أن على من فاضل بين الأشخاص أو الأجناس أو الأعمال أن يذكر وجه التفضيل ، وجهة التفضيل. ويحترز بذكر الفضل المشترك بين الفاضل والمفضول، لئلا يتطرق القدح إلى المفضول وكذلك في الجانب الآخر إذا ذكرت مراتب الشر والأشرار، وذكر التفاوت بينهما. فينبغي بعد ذلك أن يذكر القدر المشترك بينهما من أسباب الخير أو الشر. وهذا كثير في الكتاب والسنة. وفي هذا الحديث: أن المؤمنين يتفاوتون في الخيرية، ومحبة الله والقيام بدينه، وأنهم في ذلك درجات وقوله صلى الله عليه وسلم : (احرص على ما ينفعك واستعن بالله) كلام جامع نافع، مُحِتوٍ على سعادة الدنيا والآخرة. والأمور النافعة قسمان: أمور دينية، وأمور دنيوية. والعبد محتاج إلى الدنيوية كما أنه محتاج إلى الدينية. فمدار سعادته وتوفيقه على الحرص والاجتهاد في الأمور النافعة منهما، مع الاستعانة بالله تعالى، فمتى حرص العبد على الأمور النافعة واجتهد فيها، وسلك أسبابها وطرقها، واستعان بربه في حصولها وتكميلها: كان ذلك كماله، وعنوان فلاحه. ومتى فاته واحد من هذه الأمور الثلاثة: فاته من الخير بحسبها، فمن لم يكن حريصاً على الأمور النافعة، بل كان كسلاناً لم يدرك شيئاً. فالكسل هو أصل الخيبة والفشل. فالكسلان لا يدرك خيراً، ولا ينال مكرمة، ولا يحظى بدين ولا دنيا، ومتى كان حريصاً، ولكن على غير الأمور النافعة: إما على أمور ضارة، أو مفوتة للكمال كان ثمرة حرصه الخيبة، وفوات الخير، وحصول الشر والضرر، فكم من حريص على سلوك طرق وأحوال غير نافعة لم يستفد من حرصه إلا التعب والعناء والشقاء. ثم إذا سلك العبد الطرق النافعة، وحرص عليها، واجتهد فيها: لم تتم له إلا بصدق اللجأ إلى الله، والاستعانة به على إدراكها وتكميلها وأن لا يتكل على نفسه وحَوْله وقوته، بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على ربه. فبذلك تهون عليه المصاعب، وتتيسر له الأحوال محتاج – بل مضطر غاية الاضطرار – إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها. فالأمور النافعة في الدين ترجع إلى أمرين: علم نافع، وعمل صالح. أما العلم النافع: فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين. وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان، وتعيين ذلك يختلف باختلاف الأحوال. والحالة التقريبية: أن يجتهد طالب العلم في حفظ مختصر من مختصرات الفن الذي يشتغل فيه. فإن تعذر أو تعسر عليه حفظه لفظاً، فليكرره كثيراً، متدبراً لمعانيه، حتى ترسخ معانيه في قلبه. ثم تكون باقي كتب هذا الفن كالتفسير والتوضيح والتفريع لذلك الأصل الذي عرفه وأدركه، فإن الإنسان إذا حفظ الأصول وصار له ملكة تامة في معرفتها هانت عليه كتب الفن كلها: صغارها وكبارها. ومن ضيع الأصول حرم الوصول. فمن حرص على هذا الذي ذكرناه، واستعان بالله: أعانه الله، وبارك في علمه، وطريقه الذي سلكه. ومن سلك في طلب العلم غير هذه الطريقة النافعة: فاتت عليه الأوقات، ولم يدرك إلا العناء، كما هو معروف بالتجربة. والواقع يشهد به، فإن يسر الله له معلماً يحسن طريقة التعليم، ومسالك التفهيم: تم له السبب الموصل إلى العلم. وأما الأمر الثاني – وهو العمل الصالح -: فهو الذي جمع الإخلاص لله، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وهو التقرب إلى الله: باعتقاد ما يجب لله من صفات الكمال، وما يستحقه على عباده من العبودية، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وتصديقه وتصديق رسوله في كل خبر أخبرا به عما مضى، وعما يستقبل عن الرسل، والكتب والملائكة، وأحول الآخرة، والجنة والنار، والثواب والعقاب وغير ذلك ثم يسعى في أداء ما فرضه الله على عباده: من حقوق الله، وحقوق خلقه ويكمل ذلك بالنوافل والتطوعات، خصوصاً المؤكدة في أوقاتها، مستعيناً بالله على فعلها، وعلى تحقيقها وتكميلها، وفعلها على وجه الإخلاص الذي لا يشوبه غرض من الأغراض النفسية. وكذلك يتقرب إلى الله بترك المحرمات، وخصوصاً التي تدعو إليها النفوس، وتميل إليها. فيتقرب إلى ربه بتركها لله، كما يتقرب إليه بفعل المأمورات، فمتى وفّق العبد بسلوك هذا الطريق في العمل، واستعان الله على ذلك أفلح ونجح. وكان كماله بحسب ما قام به من هذه الأمور، ونقصه بحسب ما فاته منها. وأما الأمور النافعة في الدنيا: فالعبد لا بد له من طلب الرزق. فينبغي أن يسلك أنفع الأسباب الدنيوية اللائقة بحاله. وذلك يختلف باختلاف الناس، ويقصد بكسبه وسعيه القيام بواجب نفسه، وواجب من يعوله ومن يقوم بمؤنته، وينوي الكفاف والاستغناء بطلبه عن الخلق. وكذلك ينوي بسعيه وكسبه تحصيل ما تقوم به العبوديات المالية: من الزكاة والصدقة، والنفقات الخيرية الخاصة والعامة مما يتوقف على المال، ويقصد المكاسب الطيبة، متجنباً للمكاسب الخبيثة المحرمة. فمتى كان طلب العبد وسعيه في الدنيا لهذه المقاصد الجليلة، وسلك أنفع طريق يراه مناسباً لحاله كانت حركاته وسعيه قربة يتقرب إلى الله بها. ومن تمام ذلك: أن لا يتكل العبد على حوله وقوته وذكائه ومعرفته، وحذقه بمعرفة الأسباب وإدارتها، بل يستعين بربه متوكلاً عليه، راجياً منه أن ييسره لأيسر الأمور وأنجحها، وأقربها تحصيلاً لمراده. ويسأل ربه أن يبارك له في رزقه، فأول بركة الرزق: أن يكون مؤسساً على التقوى والنية الصالحة. ومن بركة الرزق: أن يوفق العبد لوضعه في مواضعه الواجبة والمستحبة، ومن بركة الرزق: أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: فإن قيل: أي المكاسب أولى وأفضل؟ قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك. فمنهم من فضل الزراعة والحراثة. ومنهم من فضل البيع والشراء. ومنهم من فضل القيام بالصناعات والحرف ونحوها. وكل منهم أدلى بحجته. ولكن هذا الحديث هو الفاصل للنزاع، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال : (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله) والنافع من ذلك معلوم أنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. فمنهم من تكون الحراثة والزراعة أفضل في حقه، ومنهم من يكون البيع والشراء والقيام بالصناعة التي يحسنها أفضل في حقه. فالأفضل من ذلك وغيره الأنفع. فصلوات الله وسلامه على من أعطي جوامع الكلم ونوافعها. ثم إنه صلى الله عليه وسلم حضّ على الرضا بقضاء الله وقدره، بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع في الحرص على النافع. فإذا أصاب العبد ما يكرهه فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء الله وقدره ليزداد إيمانه، ويسكن قلبه وتستريح نفسه؛ فإن ( لو ( في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر، واعتراضه عليه، وفتح أبواب الهم والحزن والمضعف للقلب. وهذه الحال التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي أعظم الطرق لراحة القلب، وأدعى لحصول القناعة والحياة الطيبة، وهو الحرص على الأمور النافعة، والاجتهاد في تحصيلها، والاستعانة بالله عليها، وشكر الله على ما يسره منها، والرضى عنه بما فات، ولم يحصل منها. واعلم أن استعمال ( لو ( يختلف باختلاف ما قصد بها. فإن استعملت في هذه الحال التي لا يمكن استدراك الفائت فيها فإنها تفتح على العبد عمل الشيطان، كما تقدم. وكذلك لو استعملت في تمني الشر والمعاصي فإنها مذمومة، وصاحبها آثم، ولو لم يباشر المعصية. فإنه تمنى حصولها. وهذا الأصل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الأمر بالحرص على الأمور النافعة، ومن لازمه اجتناب الأمور الضارة مع الاستعانة بالله – يشمل استعماله والأمر به في الأمور الجزئية المختصة بالعبد ومتعلقاته، ويشمل الأمور الكلية المتعلقة بعموم الأمة. فعليهم جميعاً أن يحرصوا على الأمور النافعة. وهي المصالح الكلية والاستعداد لأعدائهم بكل مستطاع مما يناسب الوقت، من القوة المعنوية والمادية، ويبذلوا غاية مقدورهم في ذلك، مستعينين بالله على تحقيقه وتكميله، ودفع جميع ما يضاد ذلك. وشرح هذه الجملة يطول وتفاصيلها معروفة. وقد جميع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر، والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان دلّ عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة. ولا يتم الدين إلا بهما. بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما، لأن قوله (احرص على ما ينفعك) أمر بكل سبب ديني ودنيوي، بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص لعيه، نية وهمة، فعلاً وتدبيراً. وقوله: (واستعن بالله) إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي هو الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب المصالح ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك. فالمتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يتعين عليه أن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه، وأن يقوم بكل سبب نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته والله المستعان. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضاً – وشبك بين أصابعه) متفق عليه. هذا حديث عظيم، فيه الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمنين أنهم على هذا الوصف. ويتضمن الحثّ منه على مراعاة هذا الأصل. وأن يكونوا إخواناً متراحمين متحابين متعاطفين، يحب كل منهم للآخر ما يحب لنفسه، ويسعى في ذلك، وأن عليهم مراعاة المصالح الكلية الجامعة لمصالحهم كلهم، وأن يكونوا على هذا الوصف فإن البنيان المجموع من أساسات وحيطان محيطة كلية وحيطان تحيط بالمنازل المختصة، وما تتضمنه من سقوف وأبواب ومصالح ومنافع. كل نوع من ذلك لا يقوم بمفرده حتى ينضم بعضها إلى بعض. كذلك المسلمون يجب أن يكونوا كذلك. فيراعوا قيام دينهم وشرائعه وما يقوِّم ذلك ويقويه، ويزيل موانعه وعوارضه. فالفروض العينية: يقوم بها كل مكلف، لا يسع مكلفاً قادراً تركها أو الإخلال بها. وفروض الكفايات: يجعل في كل فرض منها من يقوم به من المسلمين، بحيث تحصل بهم الكفاية، ويتم بهم المقصود المطلوب. قال تعالى في الجهاد: وبالجملة، يسعون كلهم لتحقيق مصالح دينهم ودنياهم، متساعدين متساندين، يرون الغاية واحدة، وإن تباينت الطرق، والمقصود واحد، وإن تعددت الوسائل إليه. فما أنفع العمل بهذا الحديث العظيم الذين أرشد فيه هذا النبي الكريم أمته إلى أن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. ولهذا حث الشارع على لك ما يقوي هذا الأمر، وما يوجب المحبة بين المؤمنين، وما به يتم التعاون على المنافع، ونهى عن التفرق والتعادي، وتشتيت الكلمة في نصوص كثيرة حتى عد هذا أصلاً عظيماً من أصول الدين تجب مراعاته واعتباره وترجيحه على غيره والسعي إليه بكل ممكن. فنسأل الله تعالى أن يحقق للمسلمين هذا الأصل ويؤلف بين قلوبهم، ويجعلهم يداً واحدة على من ناوأهم وعاداهم . إنه كريم.
عن أبي موسى رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه سائل أو طالب حاجة، قال: (اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء) متفق عليه. وهذا الحديث متضمن لأصل كبير، وفائدة عظيمة، وهو أنه ينبغي للعبد أن يسعى في أمور الخير سواء أثمرت مقاصدها ونتائجها أو حصل بعضها، أو لم يتم منها شيء. وذلك كالشفاعة لأصحاب الحاجات عند الملوك والكبراء، ومن تعلقت حاجاتهم بهم فإن كثيراً من الناس يمتنع من السعي فيها إذا لم يعلم قبول شفاعته. فيفوّت على نفسه خيراً كثيراً من الله، ومعروفاً عند أخيه المسلم. فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يساعدوا أصحاب الحاجة بالشفاعة لهم عنده ليتعجلوا الأجر عند الله، لقوله: (اشفعوا تؤجروا) فإن الشفاعة الحسنة محبوبة لله، ومرضية له. قال تعال: وأيضاً، فلعل شفاعته تكون سبباً لتحصيل مراده من المشفوع له أو لبعضه، ما هو الواقع. فالسعي في أمور الخير والمعروف التي يحتمل أن تحصل أو لا تحصل خير عاجل، وتعويد للنفوس على الإعانة على الخير، وتمهيد للقيام بالشفاعات التي يتحقق أو يُظن قبولها. وفيه من الفوائد: السعي في كل ما يزيل اليأس، فإن الطلب والسعي عنوان على الرجاء والطمع في حصول المراد، وضده بضده، وفي الحديث دليل على الترغيب في توجيه الناس إلى فعل الخير، وأن الشفاعة لا يجب على المشفوع عنده قبولها إلا أن يشفع في إيصال الحقوق الواجبة، فإن الحق الواجب يجب أداؤه وإيصاله إلى مستحقه، ولو لم يشفع فيه. ويتأكد ذلك مع الشفاعة. وفيه أيضاً: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في حصول الخير لأمته بكل طريق. وهذا فرد من آلاف مؤلفة تدل على كمال رحمته ورأفته صلى الله عليه وسلم ، فإن جميع الخير والمنافع العامة والخاصة لم تنلها الأمة إلى على يده وبوساطته وتعليمه وإرشاده، كما أنه أرشدهم لدفع الشرور والأضرار العامة والخاصة بكل طريق. فلقد بلَّغ وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة صلوات الله وسلامه وبركته عليه وعلى آله وصحبه. قوله: (ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء) قضاؤه تعالى نوعان: قضاء قدري، يشمل الخير والشر والطاعات والمعاصي، بل يشمل جميع ما كان وما يكون، وجميع الحوادث السابقة واللاحقة. وأخصّ منه القضاء القدري الديني الذي يختص بما يحبه الله ويرضاه، وهذا الذي يقضي على لسان نبيه من القسم الثاني؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم عبد رسول، قد وفَّى مقام العبودية، وكمل مراتب الرسالة، فكل أقواله وأفعاله وهديه وأخلاقه عبودية لله متعلقة بمحبوبات الله تعالى. ولم يكن في حقه صلى الله عليه وسلم شيء مباح محض لا ثواب فيه ولا أجر فضلاً عما ليس بمأمور. وهذا شأن العبد الرسول الذي اختار صلى الله عليه وسلم هذه المرتبة التي هي أعلى المراتب حين خير بين أن يكون رسولاً ملكاً، أو عبداً رسولاً.
|